الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المدهش في المحاضرات (نسخة منقحة)
.الفصل التاسع والستون: يا من قد أرخى له في الطول وأمهل له بمد الأجل، إخل بنفسك وعاتبها وخذ على يدها وحاسبها لعلها تأخذ عدتها قبل أن تستوفي مدتها:أخواني، بادروا قبل العوائق واستدركوا فما كل طالب لاحق، واشكروا نعمة من ستركم عن الذنوب، واعرفوا فضله فقد أعطاكم كل مطلوب، ما أعم وجوده لجميع خلقه وما أكثر تقصيرهم في حقه، عم إحسانه الآدمي والبهائم والمستيقظ والنائم والجاهل، والعالم والمتقي والظالم من تأمل حسن لطفه لخليقته حيره الدهش، خلق الجنين في بطن الأم فجعل وجهه إلى ظهرها لئلا يجري الطعام عليه، وجعل انفه بين ركبتيه ليتنفس في فراغ وسيق قوته في مصران السرة وليس العجب تغذيه لأنه متصل بحي، إنما العجب، خلق الفرخ في البيضة المنفصلة فإنه من البياض يخلق ومن المح يتغذى، فقد هيأ له زاد الطريق قبل سير الإيجاد، إذا تفقأت بيضة الغراب خرج الفرخ أبيض فتنفر عنه الأم لمباينته إياها، فيبقى مفتوح الفم لطلب الرزق فيسوق القدر إلى فيه الذباب، فلا يزال يغتذي به حتى يسود، فتعود أمه إليه، خلق الطير ذا جؤجؤ مخدد لتجري سفينة طيرانه في بحر الهوى، وجعل في جناحه وذنبه ريشات طوال لينهض للطيران ولما كان يختلس قوته خوفًا من اصطياده، جعل منقاره صلبًا لئلا ينسحج ولم يخلق له أسنان لأن زمان الانتهاب لا يحتمل المضغ، وجعلت له حوصلة كالمخلاة، فينقل إليها ما يستلب ثم ينقله إلى القانصة في زمان الأمن، فإن كانت له فراخ أسهمهم قبل النقل كلما طالت ساق الحيوان طال عنقه ليمكنه تناول طعمه من الأرض، هذا طائر الماء لا يقف إلا في ضحضاح، فيتأمل ما يدب في الماء فإذا رأى ما يريد خطا خطوات على مهل فيتناول ولو كان قصير القوائم، كان حين يخطو يضرب الماء ببطنه فيهرب الصيد، هذه العنكبوت تبني بيتها بصناعة يعجز عنها المهندس إنها تطلب زاوية فجعلت فيها خيطًا، ووصلت بين طرفيها بخيط آخر وتلقي اللعاب على الجانبين فإذا أحكمت المعاقد ورتبت القسط كالسدى أخذت في اللحمة فيظن الظان أن نسجها عبث، كلا، إنها تصنع شبكة لتصيد قوتها من الذباب والبق فإذا أتمت النسج انزوت إلى زاوية ترصد رصد الصائد، فإذا وقع صيد قامت تجني ثمار كسبها فتغتذي به فإذا أعجزها الصيد طلبت زاوية ووصلت بين طرفيها بخيط ثم علقت بنفسها بخيط آخر، وتنكست في الهواء تنتظر ذبابة تمر بها فإذا دنت منها دبت إليها واستعانت على قتلها بلف الخيط على رجلها، أفتراها علمت هذه الصنعة بنفسها؟ أو قرأتها على بعض جنسها أفلا ينظر إلى حكمة من علمها؟ وتثقيف من ألهمها.فإن لم يكن لك نظر يعجبك منها فيعجب من عدم تعجبك، فإن أعجب أفعال القدر {وأَضَلَّهُ اللهُ على علمٍ} القلب جوهر في معدن البدن، فاكشف عنه بمعول المجاهدة ولا تطينه بتراب الغفلة، رميت صخرة الهوى على ينبوع الفطنة، فاحتبس الماء، انقب تحتها إن لم تطق رفعها لعل الجرف ينهار. إلهي، ما أكثر المعرض عنك والمعترض عليك، وما أقل المتعرضين لك يا روح القلوب أين طلابك؟ يا نور السموات أين أحبابك؟ يا رب الأرباب أين عبادك؟ يا مسبب الأسباب أين قصادك؟ من الذي عاملك بلبه فلم يربح؟ من الذي جاءك بكربه فلم يفرح؟ أي صدر صدر عن بابك ولم يشرح؟ من ذا الذي لاذ بحبلك فاشتهى أن يبرح؟ يا معرضًا عنه إلى من أعرضت؟ يا مشغولا بغيره بمن تعوضت؟ بعت قيام الليل بفضل لقمة، شربت كأس النعاس ففاتك الرفقة، ضرب على أذنك لا في مرافقة أهل الكهف، تناولت خمر الرقاد، فوقع بك صاحب الشرطة فعمل في حقك بمقتضى قم وانم، فجعل حدك الحبس عن لحاق المتهجدين، والله لو بعت لحظة من خلوة بنا بعمر نوح في ملك قارون لغبنت لا بل بما في الجنان كلها ما ربحت ومن ذاق عرف.إخواني، اسمعوا بحرمة الوفاء فما كل وقت يطلع سهيل، فإذا خرجتم من المجلس فاقصدوا المساجد الخراب، وضعوا وجوهكم على التراب وابعثوا أنفاس الأسف وكفى بها شفيعًا في الزلل، فإن وجدتم قلوبكم قد حضرت فاذكروني معكم.للشريف الرضي: .الفصل السبعون: يا تائهًا في بوادي الهوى انزل ساعة بوادي الفكر يخبرك بأن اللذة قصيرة والعقاب طويل واعجبًا لمن يشتري شهوة ساعة بغم الأبد. كانت المعصية ساعة لا كانت فكم ذلت بعدها النفس وكم تصاعد لأجلها النفس وكم جرى لتذكارها دمع.للشريف الرضي:يا من قد هبت على قلبه جنوب المجانبة فلفقت غيم الغفلة، فأظلم أفق المعرفة لا تيأس فالشمس تحت الغيم، لو تصاعد نفس أسف دارت شمالًا فتقطع السحاب، أنفع دواء أجده لك نقض أخلاط التخليط بالدموع، بضاعة المذنب دمعه، رأس مال المقر حزنه، راحة الأوّاب قلقه، عيشة التواب حرقه، كان آدم يبكي بعد هبوطه حتى يخوض في دمعه، فكان جبريل يأتيه فيقول كم هذا البكاء؟ ولسان حاله يجيب.للشريف الرضي: يا جبريل: ما تغير عليك أمر وأنا نقلت من برد عيش إلى حر، ما سكنت قط مسكني ولا توطنت موطني، فاقرأ على ربعي سلامي وقل له لا تنس أيامي.للمصنف: ما زال آدم يشيم برق العفو فلما طال عليه الزمان حمّل صعداء الوجد رسالة شكوى ما علمت بمضمونها الرياح. يا معاشر المذنبين، تأسّوا بأبيكم في البكاء، تفكروا كيف باع دارًا قد ربي فيها وضاع الثمن، لا تبرحوا من باب الذل فأقرب الخطائين إلى العفو المعترف بالزلل، ما انتفع آدم في بلية {وعصى} بكمال {وعلم} ولا رد عنه عز {اسجدوا} وإنما خلصه ذل {ظلمنا}. قال سريّ: بتُّ ببعض قرى الشام، فسمعت طائرًا على شجرة يقول طوال الليل، أخطأت لا أعود فقلت لأهل القرية: ما اسم هذا الطائر؟ فقالوا: فاقد إلفه.للمهيار: أخواني، نفترق على هذه الحال غفلة شاملة ودموع جامدة لا بالله لا تفعلوا. إذا رأيتم باكيًا في المجلس فارحموه، وإذا شاهدتم قلقًا فاعذروه، لا تعجبوا من واجد ما لم تجدوه.لابن المعتز: لا تلوموا صاحب الوجد فما يرى بحضرته أحدا. كان أبو عبيدة الخواص يمشي في الطريق ويصيح: وا شوقاه إلى من يراني ولا أراه. ليس للمحب قرار ولا له من الحب فرار، تعرقل وفات وخنق فمات. لو أشرفت على وادي الدجى لرأت خيم القوم على شواطئ أنهار الدموع، خلوا والله بالحبيب وطال الحديث، عين تبكي من المحبوب وأخرى تبكي عليه، لفظة تشكو منه وأخرى تشكو إليه. ري تام لمحبته، وعطش محرق إلى رؤيته.للمصنف:
|